بحثا عن وطن

رهادة عبدوش

لم أشأ ركوب التكسي قبل التأكد من وجود العداد،

كيلا يغشني بالسعر.. خوفاً على بضع ليرات زيادة يربحها مني دون استحقاق.
وبعد أن رأيت العداد المعدل وافقت على الركوب. وهكذا كأني انتصرت على كل من يحاول الغش في هذا العالم!

وسارت بنا السيارة إلى أن مررنا بالمزة، بالقرب من المشفى، وبدأت معالمه تتغير.

سائق التكسي رجل قد لا يكون له من العمر الكثير، لكن على وجهه شقاء عجوز كابدته الأيام أقسى ما لديها!

فأضحى نحيل الجسد، شارد الذهن، دامع العينين، أصفر الوجه، يلفه الحزن كأنما ولد معه فأصبح جزءا من ذاته يرسم كل معالمه ونظراته وصوته الذي سمعته أخيراً،
عندما بدأ الكلام..
لا بل بالدعاء عليهم!"
الله لا يوفقهم.. كان عندي بيت بهذه المنطقه،
عند المشفى! طالعوني منه أنا وأخوتي وأولادي مثل (... )! قلّعونا تقليعاً!
تساءلتُ كيف ذلك؟

ألم يعوضوا لكم؟ ربما كان بيتكم زراعياً خارج المنطقة المنظمة؟

ربما...حاولتُ الاستفسار لعلي أعثر على شيء أقنع نفسي به أنه مخطئ! وأنه لا تحدث مثل ذلك بهذه الوحشية!

وعلنا! وأنه لن يحدث لي مثل ذلك يوماً! لا بدّ من وجود خلل ما!

هو لم يفهمه! لا يعرفه..! واستفسرت..

وباءت محاولاتي بالفشل: إنه كما لم أرد أن أصدق: "احتلال داخلي"!

أجابني عن كل أسئلتي: ولد في هذا البيت هو وأخوته وأولادهم.. بناه والده عام (1949) م.. أوراق الطابو تؤكد ذلك..

بيت عربي عاشوا فيه أجمل أيام حياتهم..

أحبوه وأحبهم حتى أصبحوا جزءاً منه، وأصبح جزءاً منهم! وكانوا في أمان..

فلديهم مسكن: ((عندي بيتٌ.. وأرضٌ صغيرة.. فأنا الآنْ يسكنني الأمان))! "ونحن الآن أصبحنا بالشارع"!

باغتتني جملته التي لم أشأ قبولها! لكنها حقيقة! حتى التعويض عن المسكن كان خدعة!

كان أملاً ورجاء لكل فرد منهم!

منذ أن أجبروا على مغادرة المنزل و.. و..! وعدوهم بالتعويض.
لكن، لأن القضاء لا يقبل أن يخدعه أحد، فإنه يريد التأكد من كل ورقة! وهكذا مضت السنوات وتعاقب القضاة..

وكلٌ منهم يبدأ من جديد: يريد التأكد.. يريد ألا يُخدع!وهناك، في الانتظار،

أسرٌ طُردت من بيتها! لا تتأمل التعويض بما يضمن لهم مسكن كالذي كانوا فيه!

إنما تعويض يعينهم على السكن في أي مكان.. مهما كان، يلمّون به أغراضهم المبعثرة.. يحافظون به على كرامتهم..
على إنسانيتهم..

على مواطنيتهم.

أليسوا مواطنين؟!

ألا يحق لهم العيش بكرامةٍ؟!

ألا يحق لهم المسكن؟!

ألا تحق لهم الحياة الآمنه؟!


ما هو، إذاً، الوطنُ إن لم يكن كل ذاك؟
صمتُّ طويلاً!

فبماذا أجيبه؟!

كرهتُ نفسي..

خفتُ أن يغشني بليراتٍ..

وهو قد غشته الحياة بأكملها: قضاتها ومسؤوليها.. والوطن!